كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فالأب يقول للابن مثلًا: «مالك لا تذاكر وقد قرب الامتحان؟» كأن منطق العقل يفرض على الابن إن كان قد أهمل فيما مضى من العام، فما كان يصح للابن أن يهمل قبل الامتحان، وهذا أمر بدهي بالقياس العقلي، فكأن التشريع والقرآن يخاطبان المؤمنين ألا يقبلوا على أي فعل إلا بعد ترجيح الاختيار فيه بالحجة القائمة عليه، فلا يصح أن يقدم المؤمن على أي عمل بدون تفكير، ولا يصح أن يترك المؤمن أي عمل دون أن يعرف لماذا لم يعمله، فكأن أسلوب «فما لكم»، و«فما لك» مثل قول أولاد سيدنا يعقوب: {مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 11].
ما معنى قولهم هذا؟ معناه: أي حجة لك يا أبانا في أن تحرمنا من أن نكون مؤتمنين على يوسف نستصحبه في خروجنا. فكأن القياس عندهم أنهم إخوة، وأنهم عصبة، ولا يصح أن يخاف أبوهم على يوسف لا منهم ولا من شيء آخر يهدد يوسف؛ لأنهم جماعة كثيرة قوية.
وكذلك قول الحق: {فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الانشقاق: 20].
أي أن القياس يقتضي أن يؤمنوا. وقوله الحق: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} [المدثر: 49- 51].
كان القياس ألا يعرضوا عن التذكرة، إذن فأسلوب «فماله»، و«فمالك» و«فمالهم»، و«فمالكم» كله يدل على أن عمل المؤمن يجب أن يُستقبل أولًا بترجيح ما يصنع أو بترجيح ما لا يصنع. أما أن يفعل الأفعال جزافًا بدون تفكير في حيثيات فعلها، أو في حيثيات عدم فعلها فهذا ليس عمل العاقلين.
إذن فعمل العاقل أنه قبل أن يُقبل على الفعل ينظر البديلات التي يختار منها الفعل؛ فالتلميذ إن كان أمامه اللعب وأمامه الاستذكار، ويعرف أنه بعد اللعب إلى رسوب، وبعد الرسوب إلى مستقبل غير كريم، فإذا اختار الاجتهاد فهو يعرف أن بعد الاجتهاد نجاح، وبعد النجاح مستقبل كريم. فواجب التلميذ- إذن- أن يبذل قدرًا من الجهد ليتفوق. وكل عمل من الأعمال يجب أن يقارنه الإنسان بالنتيجة التي يأتي بها وبترجيح الفعل الذي له فائدة على الأفعال التي لا تحقق الهدف المرجو.
والآية هنا تقول: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} كأن القياس يقتضي ألا نكون في نظرتنا إلى المنافقين فئتين، بل يجب أن نكون فئة واحدة. وكلمة «فئة» تعني جماعة، والجماعة تعني أفرادًا قد انضم بعضهم إلى بعض على رغم اختلاف الأهواء بين هؤلاء الأفراد وعلى رغم اختلاف الآراء، إلا أنهم في الإيمان يجمعهم هوى واحد، هو هوى الدين، ولذلك قال الرسول: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به».
فالمسبب للاختلاف هو أن كل واحد له هوى مختلف ولا يجمعهم هوى الدين والاعتصام بحبل الله المتين. وما حكاية المنافقين وكيف انقسم المؤمنون في شأنهم ليكونوا فئتين؟
والفئة- كما عرفنا- هي الجماعة، ولكن ليس مطلق جماعة، فلا نقول عن جماعة يسيرون في الطريق لا يجمعهم هدف ولا غاية: إنهم فئة؛ فالفئة أو الطائفة هم جماعة من البشر تجتمع لهدف؛ لأن معنى «فئة» أنه يرجع ويفيء بعضهم إلى بعض في الأمر الواحد الذي يجمعهم، وكذلك معنى «الطائفة» فهم يطوفون حول شيء واحد. والحق يقول: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ}. هذا لفت وتنبيه من الحق بأن ننزه عقولنا أن نكون في الأمر الواحد منقسمين إلى رأيين، وخصوصًا إذا ما كنا مجتمعين على إيمان بإله واحد ومنهج واحد. والمنافقون- كما نعرف- هم الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر.
إننا نعرف أن كل المعنويات يؤخذ لها أسماء من الحسيات؛ لأن الإدراك الحسي هو أول وسيلة لإدراك القلب، وبعد ذلك تأتي المعاني.
وعندما نأتي لكلمة «منافقين» نجد أنها مأخوذة من أمر حسي كان يشهده العرب في بيئتهم، حيث يعيش حيوان اسمه «اليربوع» مثله مثل الفأر والضب. واليربوع مشهور بالمكر والخداع، ولكي يأمن الحيوانات التي تهاجمه فإنه يبني لنفسه جحرين، أو جحورا متعددة، ويفر من الحيوان المهاجم إلى جحر ما، ويحاول الحيوان المهاجم أن ينتظره عند فوهة هذا الجحر، فيتركه اليربوع إلى فتحة أخرى، كأن اليربوع قد خطط وأعد لنفسه منافذ حتى يخادع، فهو يصنع فوهة يدخل فيها في الجحر، وفوهة ثانية وثالثة، وذلك حتى يخرج من أي فتحة منها، وكذلك المنافق.
ونعرف أن المسائل الإيمانية أو العقدية على ثلاثة أشكال: فهناك المؤمن وهو الذي يقول بلسانه ويعتقد بقلبه وهو يحيا بملكات منسجمة تمامًا. وهناك الكافر وهو الذي لا يعتقد ولا يدين بالإسلام ولا يقول لسانه غير ما يعتقد، وملكاته منسجمة أيضًا، وإن كان ينتظره جزاء كفره في الآخرة؛ فملكاته منسجمة- لكن- إلى غاية ضارة، وهي غاية الكفر. أما «المنافق» فهو الذي يعتقد الكفر وينعقد عليه قلبه لكن لسانه يقول عكس ذلك، وملكاته غير منسجمة؛ فلسانه قد قال عكس ما في قلبه؛ لذلك يحيا موزعًا وقلقًا، يريد أن يأخذ خير الإيمان وخير الكفر، هذا هو المنافق.
وهناك جماعة- في تاريخ الإسلام- حينما رأوا انتصار المسلمين في غزوة بدر، قالوا لأنفسهم: «الريح في جانب المسلمين، ولا نأمن أنهم بعد انتصار بدر وقتل صناديد قريش وحصولهم على كل هذه الغنائم أن يأتوا إلينا»، هذه الجماعة حاولت النفاق وادعت الإسلام وهم بمكة، حتى إذا دخل المسلمون مكة يكونون قد حصنوا أنفسهم. أو هم جماعة ذهبوا إلى المدينة مهاجرين، ولم يصبروا على مرارة الهجرة والحياة بعيدًا عن الوطن والأهل والمال، فكروا في هذه الأمور، وأرادوا العودة عن الدين والرجوع إلى مكة، وقالوا للمؤمنين في المدينة: «نحن لنا أموال في مكة وسنذهب لاستردادها ونعود».
وبلغ المسلمون الخبر وانقسم المسلمون إلى قسمين: قسم يقول: نقاتلهم، وقسم يقول: لا نقاتلهم. الذين يقولون: «نقاتلهم» دفعهم إلى ذلك حمية الإيمان. والذين يقولون: «لا نقاتلهم» قالوا: هذه الجماعة أظهرت الإيمان، ولم نشق عن قلوبهم، وربما قالوا ذلك عطفًا عليهم لصلات أو أواصر.
فجاء القرآن ليحسم مسألة انقسام المسلمين إلى قسمين، ويحسم أمر الاختلاف.
وعندما يأتي القرآن ليحسم فهذا معناه أن رب القرآن صنع جمهور الإيمان على عينه، وساعة يرى أي خلل فيهم فسبحانه يحسم المسألة، فقال: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ}.
والخطاب موجه للجماعة المسلمة، فقوله: {فما لكم} يعني أنهم متوحدون على هدف واحد، وقوله: {فئتين} تفيد أنهم مختلفون.
إذن فـ {فئتين} تناقض الخطاب الذي بدأه الحق بـ {فما لكم}، كأن المطلوب من المتلقي للقرآن أن يقدر المعنى كالآتي: فما لكم افترقتم في المنافقين إلى فئتين؟ إذن فهذا أسلوب توبيخي وتهديدي ولا يصح أن يحدث مثل هذا الأمر، فهل ينصب هذا الكلام على كل المخاطبين؟ ننظر، هل القرآن مع من قال: «نقتل المنافقين» أو مع من قال بغير ذلك؟ فإن كان مع الفئة الأولى فهو لا يؤنب هذه الفئة بل يكرمها، إن القرآن مع هذه الفئة التي تدعو إلى قتال المنافقين وليس مع الفئة الثانية؛ لذلك فهو يؤنبها، ويوبخها. والأسلوب حين يكون توبيخًا لمن يرى رأيًا، فهو تكريم لمن يرى الرأي المقابل، ويكون صاحب الرأي المكرم غير داخل في التوبيخ، لأنّ الحق أعطاه الحيثية التي ترفع رأسه.
والحق يقول: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ} أي إن الحق يقول: أي حجة لكم في أن تفترقوا في أمر المنافقين إلى فئتين، والقياس يقتضي أن تدرسوا المسألة دراسة عقلية، دراسة إيمانية لتنتهوا إلى أنه يجب أن تكونوا على رأي واحد، ومعنى الإنكار هو: لا حجة لكم أيها المؤمنون في أن تنقسموا إلى فئتين.
ويقول الحق: {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} وساعة تسمع كلمة {أركسهم} ماذا نستفيد منها حتى ولو لم نعرف معنى الكلمة؟ نستفيد أن الحق قد وضعهم في منزلة غير لائقة. ونشعر أن الأسلوب دل على نكسهم وجعل مقدمهم مؤخرهم أي أنهم انقلبوا حتى ولو لم نفهم المادة المأخوذة منها الكلمة، وهذا من إيحاءات الأسلوب القرآني، إيحاءات اللفظ، وانسجامات حروفه.
{وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} و{أَرْكَسَهُمْ} مأخوذة من «ركسهم» ومعناها «ردهم». كأنهم كانوا على شيء ثم تركوه ثم ردهم الله إلى الشيء الأول، وهم كانوا كفارًا أولًا، ثم آمنوا، ثم أركسهم، لكن هل الله أركسهم تعنتًا عليهم أو قهرًا؟ لا؛ فهذا حدث {بِمَا كَسَبُوا}، وذلك حتى لا يدخل أحد بنا في متاهة السؤال ولماذا يعاقبهم الله ويوبخهم ما دام هو سبحانه الذي فعل فيهم هذا؛ لذلك قال لنا الحق: إنه {أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا}. و{أَرْكَسَهُمْ} مادته مأخوذة من شيء اسمه «الركس»- بفتح الراء- وهو رد الشيء مقلوبا ومنه «الرِّكس» بكسر الراء وهو الرجيع الذي يرجع من معدة الإنسان قبل أن يتمثل الطعام. مثلما نقول: «إن فلانًا غمت نفسه عليه» أو «فلان يرجع ما في بطنه».
وعندما ننظر إلى هذه العملية نجد أن الطعام الذي يشتهيه الإنسان ويحبه ويقبل عليه ويأكله بلذة، وتنظر عيونه إليه باشتهاء، ويده تقطع الطعام بلذة ويمضغ الطعام بلذة، هذا الطعام بمجرد مضغة مع بعضه ينزل في المعدة وتضاف إليه العصارات المهضمه، فإذا رجع فإنه في هذه الحالة يكون غير مقبول الرائحة، بل إن الإنسان لو هضم الطعام وأخذ منه المفيد وأخرج البافي بعد ذلك، فرائحة الفضلات الطبيعية ليست أسوأ من رائحة الطعام لو رجع بدون تمثيل.
فلو رأيت إنسانًا يقضي حاجة وآخر يتقيأ الطعام، فالنفس تتقزز من الذي يتقيأ أكثر مما تتقزز من الذي يقضي حاجته؛ لأن «الترجيع» يخرج طعامًا خرج من شهوة المضغ والاستمتاع. ولم يصل إلى مسألة التمثيل.
ولذلك نسمع المثل «كل ما فات اللسان صار نتان». و«الرِّكس» هو الرجيع الذي يرجعه الإنسان بعد الطعام قبل أن يتمثله. فالطعام بعد أن يتمثل ويخرج من المكان المخصص له يصبح روثًا، وغائطًا وبرازًا. والحق سبحانه وتعالى قد جاء بالكلمة التي تصفهم: {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ} أي أنهم ارتدوا من قبل أن ينتفعوا بأي شيء من الإيمان.
هذا هو التعبير القرآني الذي جاء بالعبارة التي تؤدي هذا المعنى، وتؤدي إلى نفرتنا منهم، فيكون الإركاس هو الرد، وهل هو مطلق الرد، أو رد له كيفية؟ هو رد بإهانة أيضًا، كيف؟ لأن الشيء إن كان قوامه أن يقف رأسيًا، يكون الركس أن تجعل رأسه في مكان قدمه وقدمه في مكان رأسه. وعلى ذلك فالرد ليس ردًا عاديًا بل إنّه رد جعل المردود هُزُوًا. وإن كانت استقامة الأمر على الامتداد الطولي، يكون الركس بأن تأتي بما في الخلف إلى الأمام، وبما في الأمام إلى الخلف، فتقلب له كيانه، وتعكس حاله.
والقرآن يصف الكافرين والمنافقين: {ثُمَّ نُكِسُواْ عَلَى رُءُوسِهِمْ} [الأنبياء: 65].
لماذا، لأن الرأس مبنيٌ على القامة والهامة والارتفاع. هذا الرأس يُجْعلُ مكان القدم، والقدم يكون محل الرأس. إذن فقوله: {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ} أي لم يردهم مطلق الرد، بل ردّهم ردا مهينًا، ردًّا يقلب أوضاعهم.
{وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} إذن فلا يقولن أحد: ما دام الله قد أركسهم فما ذنبهم؟ إن الله قد أركسهم {بِمَا كَسَبُوا}، فهم كانوا فاعلين لا منفعلين.
وإليكم هذا المثل- ولله المثل الأعلى- حين تضع المدرسة أو الجامعة درجات للنجاح في كل مادة. تجد مادة يجب أن يحصل الطالب فيها على نسبة ستين في المائة. وأخرى على سبعين في المائة، ويدخل التلاميذ الامتحان، وعندما يرسب أحدهم لا يقال: إن المدرسة قد جعلته يرسب، صحيح هي أرسبته ولكن وفق القوانين التي وضعتها المدرسة أو الجامعة من قبل أن يدخل التلميذ الامتحان، ولأنه لم يبذل الجهد الكافي للنجاح، فقد أرسب نفسه.
إذن، فالله لم يأت بالرّكس ورماه عليهم. بل هم الذين كسبوا كسبًا جعل قضية السنة الكونية هي التي تؤدي بهم إلى الركس، مثلهم مثل التلميذ الذي لم يستذكر فلم يُجب في الامتحان، فلا يقال عن هذا التلميذ: إن المدرسة أرسبته.
ولكنه هو الذي أرسب نفسه.
ولذلك عندما يقال: الله هو الذي أضلهم، فما ذنبهم؟ هذه هي القضية التي يقول بها المسرفون على أنفسهم. ولهؤلاء نقول هذه الآية: {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} وكذلك أضل الله الضالين بفعلهم، كيف؟.